السيء في العمى أنك لا تستطيع أن ترى أنك لا ترى؛ فلا ترى يديك وهما يتحسسان الجدار أو الساعد الذي يقودك في العتمة إلى مكان لا يعلمه إلا هو. أن تغامر بيدك فتضعها فوق أي كتف أو تسلمها إلى أي عابر لمجرد أنه يستطيع تمييز ملامح الأشياء التي لا تراها. أن تمارس شؤونك التافهة وأنت تظن أن هناك دوما من يراقبك، ويتلصص على عريك.
أن تفتح شرفتك كل صباح دون أن تتغير الصور أن يتحول الأشخاص في محيط وعيك إلى نبرات قد لا تحمل أي معنى أن تتحول إلى زائدة مهملة في بطن هذا العالم المتورمة في انتظار الخلاص الذي قد يتأخر كثيرا.
لكن الأسوأ من الشعور بالعمى، أن تكون وحدك من يرى وسط محيط من العميان؛ أن تنظر يمنة ويسرة وأنت تعبر طرق الحياة فلا تصادف إلا قطعانا من أنصاف الآدميين الذين أجبرهم “البياض” على إخراج أسوأ ما فيهم من طباع.
فتراهم يمارسون همجية القطيع، فيتقاتلون على اللقمة ويفرغون أمعاءهم في العراء، ويستحمون في النوافذ، ويتأوهون في الأسرة دون حياء. أن تراهم يتغوطون في الشوارع والميادين وفوق أسرة الغرف المعتمة، ثم تراهم يمشون فوق فضلاتهم أو ينامون فوقها دون تمييز.
أن تجد نفسك مضطرا لتحمل مسؤولية عنبر كامل من العميان الذين قد يتمنون لك العمى في أي لحظة إن تأخرت عن تلبية احتياجاتهم.
هذه المشاعر المختلطة تثور في أعماقك كبركان أعمى وأنت تقرأ رواية “العمى” للكاتب العبقري جوزيه ساراماغو والتي أجاد نقلها إلى العربية العبقري محمد حبيب.
عند إحدى شارات المرور بإحدى المدن، يصرخ أحدهم داخل سيارته فجأة: “لا أستطيع أن أرى.” يتحلق حوله الناس، ويحاولون مساعدته. يتطوع أحدهم بإيصاله إلى منزله، ثم يقرر سرقة سيارته التي لن يعود في حاجة إليها.
وتعود زوجة الأعمى، فيطلعها على ما حدث توقف الزوجة سيارة أجرة، بعد أن تتأكد من سرقة سيارتهما، وترافق زوجها إلى أقرب عيادة للعيون. يجري الطبيب بعض الفحوصات، فلا يجد سببا فسيولوجيا لرؤية هذا البياض الحليبي المقيم.
يعود الطبيب إلى بيته بعد اغلاق عيادته، لينبش في المراجع الطبية عله يجد سببا علميا يفسر ما حدث للرجل. لكنه يجد نفسه مضطرا في النهاية لاستخدام راحتيه حتى يتحسس طريقه إلى غرفة نومه بعد أن غطى البياض كل الأرائك والوسائد والفرش.
تتوالى البلاغات عن حالات عمى متفرقة، فتدرك السلطات أنها تواجه وباء من نوع ما، فتقرر عزل المصابين مؤقتا في مشفى غير مأهول للأمراض العقلية، ولا تسمح لهم باجتياز أسواره.
ترفض زوجة الطبيب أن تترك زوجها يواجه هذا المصير وحده، فتدعي العمى لتشاركه محنة البياض. ويتوالى قدوم الوافدين إلى عنابر النسيان.
يصل الأعمى الأول وزوجته العمياء، ويصل سارق السيارة، ثم سائق سيارة الأجرة الذي أقل أول العميان، ثم يصل كل من كان بعيادة الطبيب من عاملات أو ممرضات أو زبائن.
وتبدأ العنابر التي كانت خاوية على فراغها تضج بأقدام لا تعرف طريقها، وأكف لم تتدرب على تلمس الجدران بعد.
ومع شح الطعام وندرة الماء وانسداد المجارير، يتحول المكان شيئا فشيئا إلى حظيرة للخنازير تنبعث منها روائح لا تحتمل. ثم يستأسد بعض العميان على بعض، فتستأثر قلة من الأشقياء بالطعام مطالبين بقية النزلاء بدفع ثمن الطعام. يبدأ النزلاء بالتنازل عن مصوغاتهم وحليهم وأموالهم، ثم يضطرون إلى التنازل على نسائهم من أجل الحصول على ما يقيم أودهم ويقيهم المسغبة وينتهي الصراع بحريق هائل تشعله إحدى المغتصبات، ليقترب من بقي حيا من النزلاء من بوابة العبور فلا يجدون حرسا هناك.
تكتشف زوجة الطبيب أن المدينة كلها قد أصيبت بالعمى بما في ذلك الحكومة والسلطات، وأن عليهم أن يتدبروا شؤونهم بأنفسهم في مدينة بلا ماء ولا كهرباء ولا طاقة، وتضطر إلى مصارحة رفاقها بأنها مبصرة. وهكذا تتحول إلى قائد بائس لحفنة من التعساء في مدينة حزينة، لا هم لقاطنيها إلا التجول على غير هدى للبحث عن حياة، أي حياة.
ما أسوأ أن تكون قائدا مبصرا لجماعة من التائهين في مجتمع أعمى، وأن ترى كل البشاعة البشرية وحدك وأن تتحمل وزر كل من حولك لتصبح شاهد العيان الوحيد على العمى المطبق الذي أصاب البشرية كلها.
أن ترى الروث المنتشر على الأرصفة وفوق الثياب والوجوه الشاحبة أن ترى النفوس عارية من زينتها المدعاة وقد استسلمت لغريزتها الفجة تمارسها كلما اشتهت ودونما اشتهاء، حتى لا تجد في نفسك ما عساه يوغر صدرك ضد هؤلاء التعساء وهو ما يتجلى في موقف المبصرة الوحيدة التي لم تشعر بالحنق على الفتاة التي كانت تمارس شهقات فاجرة في أحضان زوجها الأعمى فوق أحد الأسرة القذرة.
وبدلا من مشاعر الغضب والسخط التقليدية، نجدها تفرد ذراعيها فوق عريهما وكأنها مسيح مصلوب يواري سوأة الإنسان الأول، بل وتعتبر نفسها منذ ذلك الحين مسؤولة عن تلك الفتاة مسؤولية أخلاقية لمجرد أنها شاركت زوجها الفراش.
القصة مأساوية بامتياز، لا تعرف بعد قراءتها على أي من الناس تشفق: من حرم نعمة الإبصار وعاش هائما على وجهه وسط القذارة والنتن، أم على من رأى ذلك كله دون أن يتمكن من إيقاف عجلة الهمجية عن الدوران في هذا الجحيم الآدمي.
لو أن العمى خيار، لأقدمت عليه زوجة الطبيب البائسة وكل مبصر كتب عليه أن يتجرع هذا البؤس البشري في صمت فأحيانا يكون الإبصار هو أشد أنواع العمى لا سيما حين يقترن بالعجز وقلة الحيلة.